قدعلمت أن الله تعالى قد أكرم آل حليمة السعدية التي أرضعته صلى الله عليهوسلم، فبدل عسرهم يسراً وأشبع غنيماتهم وأدر ضروعها في سنة الجدب والشدة،كما بارك سبحانه وتعالى في رزق عمه أبي طالب حينما كان في كفالته، مع ضيقذات يده، وأنه سبحانه وتعالى كان يسخر له الغمامة تظله وحده من حر الشمسفي سفره إلى الشام، فتسير معه أنى سار دون غيره من أفراد القافلة. وكانسبحانه وتعالى يلهمه الحق ويرشده إلى المكارم والفضائل في أموره كلها، حتىإنه كان إذا خرج لقضاء الحاجة في صغره بَعُدَ عن الناس حتى لا يُرى.
وكان سبحانه وتعالى يكرمه بتسليم الأحجار والأشجار عليه، ويُسمعه ذلك فيلتفت عن يمينه وشماله فلا يرى أحداً.
وقد كان علماء اليهود والنصارى - رهبانهم وكهنتهم- يعرفون زمن مجيئه صلىالله عليه وسلم مما جاء من أوصافه في التوراة وما أخبر به المسيح عيسى بنمريم عليه الصلاة والسلام فكانوا يسألون عن مولده وظهوره وقد عرفه كثيرونمنهم لما رأوا ذاته الشريفة أو سمعوا بأوصافه وأحواله صلى الله عليه وسلم.
وقد نشأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ممتازاً بكمال الأخلاق، متباعداًفي صغره عن السفاسف التي يشتغل بها أمثاله في السن عادة، حتى بلغ مبلغالرجال فكان أرجح الناس عقلاً، وأصحهم رأياً، وأعظمهم مروءة، وأصدقهمحديثاً، وأكبرهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش، وقد لقبه قومه (بالأمين)،وكانوا يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم.
وقد حفظه الله تعالى منذ نشأته من قبيح أحوال الجاهلية، وبَغَّض إليهأوثانهم حتى إنه من صغره كان لا يحلف بها ولا يحترمها ولا يحضر لها عيداًأو احتفالاً، وكان لا يأكل ما ذبح على النُّصُب، و النصب هي حجارة كانواينصبونها ويصبون عليها دم الذبائح ويعبدونها.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم لين الجانب يحن إلى المسكين، ولا يحقر فقيراًلفقره، ولايهاب ملكا لملكه، ولم يكن يشرب الخمر مع شيوع ذلك في قومه، ولايزنى ولا يسرق ولا يقتل، بل كان ملتزما لمكارم الأخلاق التي أساسها الصدقوالأمانة والوفاء.
وبالجملة حفظه الله تعالى من النقائص والأدناس قبل النبوة كما عصمه منها بعد النبوة.
وكان يلبس العمامة والقميص والسراويل، ويتزر ويرتدى بأكيسة من القطن،وربما لبس الصوف والكتان، ولبس الخف والنعال وربما مشى بدونها. وركب الخيلوالبغال والإبل والحمير. وكان ينام على الفراش تارة وعلى الحصير تارة وعلىالسرير تارة وعلى الأرض تارة، ويجلس على الأرض، ويخصف نعله، (أي يخرزهاويصلحها) ويرقع ثوبه، وقد اتخذ من الغنم والرقيق من الإماء والعبيد بقدرالحاجة. وكان من هديه في الطعام ألا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً.
اتصف صلى الله عليه وسلم بصفات لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده ، كيف لا وهوخير الناس وأكرمهم عند الله تعالى . فقد كان صلى الله عليه وسلم أفصحالناس ، وأعذبهم كلاماً وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقا حتى إن كلامه ليأخذبمجامع القلوب ويأسر الأرواح ، يشهد له بذلك كل من سمعه.
وكان إذا تكلم تكلم بكلام فَصْلٍ مبين، يعده العاد ليس بسريع لا يُحفظ ،ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع، بل هديه فيه أكمل الهديِّ ،كما وصفتهأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها
ما كان رسول الله صلى الله عليهوسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يتحفظه من جلسإليه) متفق عليه .
وثبت في (( الصحيحين )) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللهعليه وسلم أنه قال
بعثت بجوامع الكلام) وكان كثيراً ما يعيد الكلامثلاثاً ليفهمه السامع ويعقله عنه ، ففي البخاري عن النبي صلى الله عليهوسلم أنه
كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ، حتى يفهم عنه، وإذا أتىعلى قوم فسلم عليهم ، سلم ثلاثاً).
وكان صلى الله عليه وسلم طويل الصمت لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وكانإذا تكلم افتتح كلامه واختتمه بذكر الله، وأتى بكلام فَصْلٍ ليس بالهزل ،لازيادة فيه عن بيان المراد ولاتقصير ، ولا فحش فيه ولا تقريع ، أما ضحكهصلى الله عليه وسلم فكان تبسماً، وغاية ما يكون من ضحكه أن تبدو نواجذه،فكان يَضْحَك مما يُضْحك منه، ويتعجب مما يُتعجب منه.
وكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم من جنس ضحكه ، فلم يكن بكاؤه بشهيق ولابرفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، بل كانت عيناه تدمعان حتى تهملا،ويُسمع لصدره أزيز، وكان صلى الله عليه وسلم تارة يبكى رحمة للميت كمادمعت عيناه لموت ولده، وتارة يبكي خوفاً على أمته وشفقة عليها ، وتارةتفيض عيناه من خشية الله ، فقد بكى لما قرأ عليه ابن مسعود رضي الله عنه(سورة النساء ) وانتهى إلى قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّأُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
وتارة كان يبكي اشتياقاً ومحبة وإجلالاً لعظمة خالقه سبحانه وتعالى.
وما ذكرناه وأتينا عليه من صفاته صلى الله عليه وسلم غيض من فيض لا يحصرهمقال ولا كتاب، وفيما ألمحنا إليه عبرة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراًوالحمد لله أولاً وأخيرا